موسى فال يكتب عن المرحوم سيدى ولد الشيخ عبد الله تحت عموان: "فرصة أضاعتها موريتانيا"

سبت, 11/28/2020 - 22:38

 

لقد غادرنا الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله يوم الأحد 22 نوفمبر 2020. وقد قال لي نجله أحمد وأنا أسأله عن ظروف وفاته: "لقد غادر ظريفا كما عاش ظريفا". احتفظت بهذه العبارة لحصافتها. لقد كان الرجل فعلا ظريفا بامتياز، والظرافة هبة من الله، وعندما تتلازم مع الكارزما فإنهما تمنحان الشخص جاذبية لا تمكن مقاومتها. ولا شك أن هذه الظاهرة هي التي جعلت الرئيس منصف المرزوقي يقول: "لقد وجدت نفسي خلال لقاءاتنا في حضرة ذلك الصنف من الرجال الذين يشرفون ذويهم، ويشرفون جيلهم، ويشرفون السياسة، ويشرفون من أتيحت له فرصة الحديث معهم". إنها شهادة من أحد رجال الحق والمبادئ والقناعات. لقد حظي الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بتربية وسطه التقليدي .. تربية قوامها الأدب والتمسك بالأخلاق الحميدة والاستقامة. وقد حالفه الحظ في اتباع منهج دراسي وجامعي فتح له آفاق العصرنة. لقد خطا خطواته الأولى كموظف ثم كوزير في الإدارة تحت رئاسة المختار ولد داداه، تلك الإدارة التي كانت مدرسة تكون على روح الدولة واحترام الشأن العام. لقد كانت للرجل مؤهلات متميزة ساهمت، إضافة إلى مساره، في ظهور شخصية غير عادية: عصارة من القيم والمناقب الحميدة. أول ما يتبادر للذهن في هذا المضمار من هذه المناقب هو قدرته على التحمل والمقاومة. كان من الطبيعي أن شخصية الرئيس سيدي ومساره سيجعلانه في منأى عن أي ظلم أو حيف. ولكن ذلك التصور مبني على جهل طبيعة مجتمعنا الذي لا يبخل جهدا في أن يسحب إلى الأسفل كل من يحاول الارتقاء والتميز. وهكذا كان الرئيس سيدي من أكثر من كانوا هدفا لكل أنواع السهام الغادرة. لقد واجه في حياته محنا كانت لتقضي على كل شخص سواه. فقد تعرض لحملات التشويه في منتص السبعينات وفي أواخر الثمانينات. كما تعرض لمحنة انقلاب 1978 ، وتعرض هو وعائلته للمعاملة المهينة خلال وبعد انقلاب 6 أغشت 2008. وكان سلوكه تجاه كل هذه المحن، وفي الأوقات، مثاليا. لقد اعتمد الصبر والأناة وترك للزمن فرصة القيام بعمله في إحقاق الحق وإزهاق الباطل. لم يبد منه أي غل أو حقد أو ميل للثأر، ولم تصدر عنه أي كلمة في غير محلها. لقد تدثر بكبريائه وسمو نفسه، وأوكل أمر أعدائه لربه. لقد ألصقت طويلا بالرئيس سيدي صورة توحي بكثير من المرونة. إلا أن موقفه تجاه الانقلابيين سنة 2008 جعل الجميع يقتنع بصلابته وقوة شكيمته. لم تبق وسيلة إلا واستخدمت في البداية لإرغامه على التراجع عن إقالة الجنرالات. وفي شهادة مسجلة بالصوت والصورة أكد الرئيس سيدي أنه تلقى تهديدا بالقتل إذا لم يتراجع عن هذا القرار. بعد ذلك تمت محاولة إرغامه على الاستقالة من رئاسة الجمهورية، كما تم سجنه وتسجيل محادثاته مع سجانيه بدون علمه وبطريقة دنيئة. لقد تعرضت أسرته لسوء المعاملة والتهديد بهدف تركيعه. ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل. لقد ظل هادئا ورفض التنازل بقوة وحزم. كل من حالفهم الحظ في العمل مع الرئيس سيدي يمكنهم أن يشهدوا بما يتمتع به من روح الانفتاح والقدرة على الاستماع وحسن التقدير، وبما يتمتع به من استعداد لأخذ آراء مخالفيه بعين الاعتبار. إلا أنه من العبث محاولة تغيير رأيه إلا بقوة الحجة والبرهان. الحديث مع سيدي متعة حقيقية لا تمل، سواء تعلق الأمر بأمور عادية وبسيطة أو بأمور جوهرية وأساسية.  وقد منحه الله حلاوة وجاذبيته السرد حتى عندما يحدثك عن أمور تبدو تافهة. أما حول الأمور الجوهرية، فإن الرئيس سيدي يبرهن على قدرة على الاستيعاب وعمق التحليل قل أن نجد لها نظيرا لدى الطبقة السياسية الوطنية. لقد مكنه سمو نظره من تصور حكامة تتماشى مع متطلبات عصرنا. فبالرجوع دائما إلى الإطار الاستراتيجي للتنمية المعتمد، حرر رسالة تكليف لوزيره الأول أوضح من خلالها الرؤية والمهام والإجراءات التي يجب اعتمادها، في الوقت الذي منح فيه المسؤولية للفرق المكلفة بتنفيذها. لقد دشن ممارسات جديدة في تطبيق الديمقراطية من خلال تطوير التشاور وتوسيع مجالات الحريات. كما وضع خطة للحماية الاجتماعية اعتبرت نموذجا في وجه الارتفاع المذهل لأسعار المواد الأساسية. لقد شكل مجلسا رئاسيا للاستثمار لتطوير ودفع سياسة جديدة للتنمية الاقتصادية قائمة على بروز قطاع خاص ديناميكي وعصري.  وحرك بقوة النظام التربوي الذي بدأ، في فترة حكمه، يأخذ مسار عادات أحسن في العمل. أضاف الرئيس إلى نظرته السامية أسلوبا تطبعه روح عالية من المسؤولية وخبرة حقيقية في مفاصل الدولة، كل ذلك مع تمسكه بدرجة عالية من الكياسة والأناقة في التعامل مع الآخرين. قال لي يوما أنه لم ينم ليلة كاملة وهو في مكة المكرمة بحثا عن الشخص الأمثل ليسند إليه مهمة يعلق عليها أهمية كبيرة. وقد وفقه الله في اختيار الشخص الذي يبحث عنه مع طلوع الفجر. إنه أسلوب يعبر عن درجة عالية من المسؤولية يشكل قطيعة مع ما هو معهود من وضع أي شخص في أي مكان، وهي ممارسات ظلت سائدة وتسببت في تحطيم إدارة البلد ومؤسساته. لقد التقى أحد أصدقائي، وكان وقتها يرأس منظمة دولية، بالرئيس سيدي. ولدى خروجه من مكتبه أسر إلي أن الرئيس أعطاه تعليمات تقضي بأن يركز جهوده على مهمته التي هي أولا وقبل كل شيء حسن إدارة المنظمة التي يرأسها، وأن يترك الدفاع عن مصالح موريتانيا للرئيس والوزراء والخبراء المسؤولين عن ذلك. لقد كلمني الرئيس سيدي ذات يوم بالهاتف، وكنت حينها أجمع بين إدارة الوكالة المكلفة بعودة اللاجئين ودمجهم ورئاسة الشركة الموريتانية للمحروقات، وقال لي، كما لو كان يستأذنني: "أنا بحاجة إلى رئاسة الشركة الموريتانية للمحروقات وأفكر في أن أستعيدها منكم". إن هذه اللباقة، غير المعهودة لدى رؤساء الدول، جعلتني أتقبل هذا الإجراء بكثير من السرور. إن التوقف المفاجئ والعنيف لهذه التجربة، بعد 15 شهرا فقط من انطلاقها، يجعل المرء يتساءل هل من الواقعية محاولة زرع حكامة من القرن الواحد والعشرين في مجتمع لا تزال هياكله تتسم بدرجة كبيرة من التخلف. إن الحكامة في مثل هذه المجتمعات لا يمكن تصورها إلا بحساب التقاسم المباشر للكعكة، بينما تتطلب الأساليب العصرية للحكامة تغليب الفعالية والقدرات والاستراتيجيات بعيدة المدى. لقد ظهرت مبكرا مؤشرات الرفض مما أدى مع مرور الوقت إلى تقويض استقرار النظام القائم. ومما سهل هذا التقويض هو كون النظام تأسس أصلا على سوء تفاهم. لقد كانت نية من يملكون حقيقة السلطة هي تنصيب دمية ليستمروا في التحكم في تسيير شؤون الدولة. إلا أن مجرى الأمور قد جاء في النهاية مغايرا لهذه التقديرات. لقد كان للرئيس سيدي عيب هو كونه ليست فيه العيوب التي لا بد منها لممارسة السلطة على هذا المستوى من المسؤوليات: الخبث والتنكر وانعدام الوازع الأخلاقي والقدرة على أن يتحول إلى "قاتل" (Killer) إذا اقتضت الحاجة كما يقول الأمريكيون. وبالتالي كانت المعركة غير متكافئة الأطراف وكانت موريتانيا هي أكبر الخاسرين فيها. تساءل أحد وزراء المختار ولد داداه وأحد أبرز العارفين بالرجال، هل ستكون موريتانيا محظوظة لدرجة أن تتمتع بسيدي كرئيس لها؟ كان ذلك قبل الترشحات لرئاسيات 2007. لقد أرانا التاريخ أنها منحت هذه ولكن التاريخ أرانا كذلك أنها أضاعتها. أتقدم بأصدق التعازي أولا إلى ختو الزوجة والصديقة، وإلى الأبناء والأحفاد الذين كان المرحوم يعزهم بشكل خاص، وإلى كل من عرفوه ولا بد أن يكونوا يقدرونه. تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته. نواكشوط، 26 نوفمبر 2020 موسى فال