صالح ولد حنن يكتب : حتى لا يكون التشاور فرصة ضائعة

اثنين, 10/18/2021 - 15:17

 

مررنا في مسيرتنا السياسية بمراحل عدة وصلت فيها الأزمات إلى ذروتها، وكانت النخبة السياسية في أغلب تلك المراحل قادرة على تصريف أزماتها عبر سلسلة من الحوارات الثنائية والجماعية. لم تكن النتائج في حدود المتوقع، وكانت المآلات سيئة في الغالب، لكنها دائما أعطت الانطباع بأن بإمكاننا تجنب الانفجارات التي حدثت أحيانا نتيجة غياب الحد الأدنى من الاستماع المتبادل.

ولا شك أن بلادنا غداة مجيء فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى السلطة كانت تمر بواحد من تلك المنعطفات التي تؤطرها الأزمات السياسية والاجتماعية، والاقتصادية الخانقة. ويسيجها بشكل أبشع مناخ متلبد من انعدام الثقة بين أطراف المشهد السيسي، بسبب تتالي الخيبات على مدى أكثر من اثنتي عشرة سنة. وبسبب الرؤية الأحادية التي تحكمت في المشهد، وتلبست بكل أنواع الإفساد الممنهج للحياة السياسية والاقتصادية.

وقد كان واضحا منذ البداية أن فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لا يعتبر نفسه طرفا في الأزمة السياسية، ولا في حزام الأزمات التي يسيجها. وكان بعيدا من الاندراج في مربعات انعدام الثقة ودوائرها.

أدرك فخامة الرئيس باكرا أن الحوار أو التشاور ليس أداة من أدوات بناء الثقة، إلا إذا كان هدفه الوحيد هو بناء الثقة. بمعنى أن الحوار أو التشاور إذا لم يسبق بثقة بين الأطراف فلن يكون إلا محاولة لبناء الثقة قد تنجح وقد تفشل. أدرك أيضا، وهذا أمر غاية في الأهمية، أنه إذا فشلت محاولات بناء الثقة في المشهد الوطني المُتَكَوِّم على حافة الانهيار فقد يكون ذلك نهاية حلم بناء مشروع وطني جامع، أو على الأقل تأجيله إلى أمد غير منظور، مع دفع أثمان باهظة قد لا يتحملها الوطن.
لقد كان لهذا الوعي بالغ الأثر في اختيارات فخامة الرئيس و طريقته الخاصة لبناء الثقة، وقد كان نجاحه في هذا المسعى باهرا. فلم تمض أشهر قليلة حتى كان قد استقبل كل أطراف المشهد السياسي وتحدث إليهم واحدا واحدا، واستطاع أن يمد معهم جسورا من الثقة جعلت إشاداتهم بشخصيته ووضوح رؤيته حالة إجماع لم يشذ عنها إلا النزر اليسير.

لقد كان لاستعادة الثقة بين الرئيس ومختلف الطيف السياسي أثر حاسم في إعادة المصداقية إلى جهاز الدولة، وإعادة الأمل لنفوس السياسيين بأن بإمكانهم أن يعيدوا تقييم الواقع برؤية جديدة، وأن يضعوا أيديهم مجددا في أيدي بعض آملين ألا تكون مصافحة عابرة.

وكان إحجامه عن إطلاق حوار أو تشاور في الأيام التي ظهر فيها أن النظام يعاني أزمة استقرار داخلية خطوة غاية في الأهمية؛ فلا أحد اليوم يرى أن النظام يريد الدخول في التشاور الوطني من باب محاولات حل المشاكل أو التخفيف من ضغوط، أو التكاثر بفئة.

وقد كان إصرار فخامة الرئيس على العدول عن مصطلح الحوار إلى مصطلح التشاور، مع ضآلة الفروق اللغوية والاصطلاحية بينهما، وعيا بتراكم الخيبات؛ ووعيا بأن مفردة الحوار تحيل في الذهنية الوطنية إلى محاولات الخروج من الأزمات، وتحيل أيضا بشكل أقوى إلى كرنفالات لإنهاء القطيعة، أو تشريع وضعية، أو تجاوز مختنق، أكثر مما تحيل إلى المحاولات الجادة لصياغة رؤى وطنية للإصلاح والبناء.

كانت هذه المقدمة ضرورية لوضع الأفكار التي سأطرح بشأن التشاور في سياقها الصحيح، حتى يفهم من لم يفهم بعد، ومن لا يزال متشبثا بتفسيراته السابقة لسلوك السلطة، أن هناك نمطا جديدا من الحكامة، وأن الأمور قد تغير بعضها فعلا، وبعضها في طريقه إلى التغير.

تصحيحا وليس إنشاء

قد تكون المقدمة السابقة أغنت عن كثير مما يمكن أن يقال بشأن ممهدات التشاور، ولكن طريقة الإعداد للتشاور نفسها أمر لا يمكن تجاهله؛ فمنذ أكثر من عام تقريبا والأحاديث واللقاءات السياسية، جماعية وثنائية، على أشدها. وقد مكنت من نقاش كل المواضيع التي يمكن أن تطرح في الحوار، وتوجت أخيرا بمقولة فخامة رئيس الجمهورية في خطابه قبل حوالي شهر بأن التشاور لن يقصي أحدا، ولن يستبعد منه موضوع.

ومع ذلك يجب أن يكون هناك وعي عميق بأننا لن نجتمع في التشاور الوطني لاختراع العجلات من جديد، وإنما لتصحيح وضعها، وتحديد مساراتها. إن السقف المفتوح الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية يجب ألا يغري ذوي المطامح بأنهم سيعيدون كل شيء من الصفر.

إنه بوابة للنقاش للوصول إلى حلول جذرية يمكن أن تشكل رؤية لرسم ملامح المستقبل، بناء على ما تحقق منذ نشأة الدولة الموريتانية إلى اليوم، آخذة في الاعتبار خيباتنا السابقة، وانتكاساتنا، وأيضا نجاحاتنا، والخطوات التي قطعتها المجموعة الوطنية إلى الأمام بإخلاص وتضحية أبناء موريتانيا وبناتها.

إن بعض المشكلات عمرها بعمر الدولة، وبعضها سابق على الدولة، وزادت الأيام من تعقيداتها، ويكفي التشاور القادم أن ينبثق عنه اعتراف حقيقي بوجودها، وبعدم نجاعة أغلب المقاربات السابقة في حلها. وهذا ما يمكن أن يكون منطلقا لصياغة حلول، نضع نحن في التشاور أسسها العامة، وأدوات الرقابة على مسار المعالجة، دون أن نتوقع انتهاء المشكلة بعد الخروج من قاعة اللقاءات، وتوقيع الأوراق.

من هنا أيضا لن يكون التشاور فرصة لتبني رؤية فلان أو علان؛ فقد اختير التشاور لتلاقي أفكار الطيف الوطني، ورؤاه المختلفة، من مختلف القضايا، ومن الضرورة بمكان أن يعي الجميع أن أولى قواعد القبول بالتلاقي هي الاستعداد للتنازل، وصياغة الحلول المركبة، والجذرية في نفس الوقت.

ولتكون حلولا فإنها يجب أن تتسم بالحد الأعلى من الاستراتيجية والبعد عن مراعاة الحساسيات اللحظية، دون أن تكون تحليقا غير واقعي بعيد عن التوازنات الوطنية الكبرى.

إن التشاور المرتقب يجب ألا يتحول إلى منصة للمزايدة السياسية، وأن يأتي أطرافه وفي نيتهم إكمال المشوار إلى نهايته، وليس لمجرد تسجيل موقف، والجلوس في وضع الاستعداد للمغادرة اتكالا على الاستفادة من النتائج.

النتائج إلى أين؟

لم يصل المشهد الوطني بعد إلى مستوى الحياة السياسية الطبيعية، وما زالت بذور الشك والريبة وانعدام الثقة قريبة في نفوس النخبة السياسية، خاصة الموصوفة بالمعارضة التقليدية، وما زال في طرفي المشهد السياسي، أغلبية ومعارضة، من لم يستوعب حجم التغيرات، وما زال هناك من هو مستعد، بحسن نية أحيانا، لتخريب جهود التقارب في المشهد الوطني ومساعي إعادة الحياة السياسية إلى مسارها الطبيعي.

لذا تقع علينا المسؤولية في الأغلبية الحاكمة أن نبعث برسائل طمأنة سريعة بعد انتهاء التشاور مباشرة بأن نتائج لقاء الطيف السياسي في هذا التشاور ليست مجرد أوراق تضاف لمسودات الخلاصات التي تمتلئ بها رفوف الأحزاب والهيئات السياسية، ومكاتب السياسيين.

يجب أن تحمل هذه الرسائل سريعا طابع الحكامة الجديدة التي تحرص فيها الدولة، والنظام السياسي على أعلى درجات المصداقية، وعلى مستوى عال من الصراحة والشفافية. حتى لو اقتضى الأمر قرارات كبرى تتعلق بالمواعيد الدستورية، فإن الإسراع في بعث تلك الرسائل سيكون ذا أهمية استراتيجية مضاعفة.

إن احترام نتائج التشاور يبدأ من طريقة صياغتها، وصياغة أدواتها التنفيذية، فكلما كانت أقرب إلى القابلية للتنفيذ، وأكثر ملامسة للواقع، كان ذلك أدعى لأن يوثق في قابليتها للتنفيذ، وفي تقبل كل الأطراف للنتائج المترتبة على تنفيذها، وتحملهم المسؤولية تجاهها. هذا فيما يتعلق بالنتائج ذات العلاقة المباشر بالحياة اليومية، وأما تلك الاستراتيجية فيجب أن تكون واضحة الآليات، مع وضوح أدوات رقابتها.

إننا أمام فرصة وطنية حقيقية، يجب ألا تذهب في عداد الفرص الضائعة، لأننا أضعنا من الفرص ما يكفي، ولأننا، وهذا مزعج جدا، لا ندري الأبواب التي ستفتح علينا إضاعة هذه الفرصة التي يبدو أنها إن لم تكن الأخيرة، فلن يتاح بعدها الكثير من الفرص القريبة.