رؤية المفكر علي الشرفاء في مفهوم الأمن القومي العربي

جمعة, 12/22/2023 - 14:40

 

يتضمن الجزء الأول من السلسلة مجموعة من الدراسات ومشاريع الحلول قاسمها المشترك أنها قومية المضمون؛ بمعني أن بعض الأفكار وإن كانت موجهة إلى دولة عربية بالذات إلا أنها تنطبق على كل الدول العربية.

الخطوط العريضة لمشروع القومية العربية

إضافة إلى دراسات متعلقة بجامعة الدول العربية وأخرى متعلقة بمؤسسة القمة العربية، وهذا ما يجعلها مواضيع عربية عامة.

مؤلف هذا الكتاب، الأستاذ علي الشرفاء الحمادي، يهدف من خلال إيهاماته الفكرية إلى وضع الخطوط العريضة لمشروع القومية العربية وإيجاد منظومة سياسية واقتصادية وعسكرية قادرة على تحقيق التطوير في الوطن العربي، والقدرة على مواجهة المستقبل وتنمية قدراته في المجالات الاقتصادية والعسكرية والعلمية حتى تتحقق النتائج المرجوة، وتعود فوائدها على المواطن العربي في مختلف أرجاء العالم.

العقل العربي في حيرة

نستكمل الجزء الأول  «دراسات ومشاريع حلول لمواجهة المستقبل العربي» من سلسلة ومضات على الطريق.

يقول المفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي في الفصل الرابع تحت عنوان؛ (رسالة مفتوحة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية):

لقد تَنَاولَتْ الكثيرُ من البيانات والصحف في مختلف الدول العربية على مدى عقود كثيرة مصطلحاً وعنواناً سياسياً باسم (الأمن القومي العربي).

لا أعلم ماذا يعني هذا المصطلح، وعلى أي أساس استندت تلك المقولة، وما هي المقومات الموضوعية التي يمكن أن يؤسس عليها مفهوم (الأمن القومي العربي).

مفهوم الأمن القومي العربي

في رأيي المتواضع – وحسب فهمي المحدود – هو أن ما تعنيه قضية الأمن لأية مجموعة من الأقوام والدول باختلاف توجهاتهم ودياناتهم ولغاتهم، هو أن هناك مصالح معينة لها أهميتها وآثارها على مجتمعاتهم سواء كانت سياسية أم اقتصادية، ويدركون ما يمكن أن يهدد تلك المصالح ويعلمون مدى الآثار السلبية على شعوبهم إذا ما تأثرت تلك المصالح والأخطار التي تترتب على ذلك في كافة المجالات الحياتية.

وهو الأمر الذي يجعلهم يتجهون جميعاً برؤية واحدة وعقيدة مشتركة للبحث عن منظومة أمنية، يهيئون لها كافة الإمكانيات المتاحة لدى كل واحدٍ منهم، ويوفرون لها المناخ المناسب، ويجمعون كل القدرات المادية لبنائها وفق استراتيجية واحدة تحمي أمن الجميع دون استثناء، حيث أن رابطة المصلحة المشتركة تفرض على تلك المنظومة العمل على حماية أمن دول المنظومة وأن انهيار أي منهم يهدد البقية . ويتمثل ذلك بكل الوضوح في منظومة حلف الأطلسي حيث لا يرتبط عضو فيه بالآخر سواء من حيث اللغة أو الثقافة أو التاريخ المشترك ، لكنهم ارتبطوا بمصلحة الأمن المشترك، بالإضافة إلى مصالح اقتصادية مشتركة ، تستفيد منها شعوبهم وينتج عنها تكتل اقتصادي قادر على مواجهة العولمة.

الأحداث والوقائع على الساحة العربية

إنني أتساءل: هل هذه الصورة بكل أبعادها ووضوحها والتزاماتها موجودة في الساحة العربية؟

أريد قبل أن أسجل الإجابة على السؤال، أن أترك الأحداث والوقائع تجيب، فهي أكثر قدرة على تأكيد الصورة لأنها أحداث مادية وقعت في زمن لا يمكن تزويره أو تبديله . وهي كما يلي :

أولاً:   في أعقاب الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1937)، والتي توقفت إثر النداء الذي وجهه إلى عرب فلسطين ملوك ورؤساء ست دول عربية هي: مصر وسوريا والعراق والسعودية واليمن ولبنان، يطلبون فيه وقف العمليات العسكرية، معتمدين على النوايا الحسنة للدولة المنتدبة بريطانيا ، وعليه فقد انعقد في (بلودان – سوريا) في شهر أغسطس 1937، أول مؤتمر عربي رفيع المستوى لاتخاذ القرارات الواجب اتخاذها للمحافظة على حقوق عرب فلسطين، وحمايتهم من الأطماع الصهيونية التي كانت تحظى بالدعم الكامل من قبل دولة الانتداب.

غياب الرؤية لطبيعة الأخطار التي تهدد الأمة العربية

إنني اعتبر نداء الدول العربية والطلب من الثورة الفلسطينية وقف العمليات العسكرية ضد القوة الغازية، هو بداية غياب الرؤية المميزة لطبيعة الأخطار التي تهدد الأمة العربية، وبداية العد التنازلي العربي للمطالب والوعود الغربية لما يحقق مصلحة إسرائيل.

فأين كان الأمن القومي العربي؟ لو كان هناك إدراك ووعي من القيادات العربية لخطورة السرطان الإسرائيلي، لاتخذ الجميع خطوات جدية من منطلق الأمن العربي، وذلك بدعم الثورة الفلسطينية بالعدة والعدد، لكن للأسف لم يحدث ذلك بل ما حدث كان على العكس، فقد طلبوا منهم وقف العمليات العسكرية، كما يطلبون اليوم من الانتفاضة أن تتوقف عن العنف حتى يبدأ حوار السلام، بالرغم من مرور أكثر من ستين عاماً على مؤتمر بلودان وكأننا لم نتعلم من دروس الماضي، ولم تمر علينا أحداث وصمت العرب بالانهزامية والاستسلام، وأطلقت إسرائيل اسم (العنف) على الانتفاضة ، لصرف الأنظار عن جرائمها التي ترتكبها كل يوم ضد العزل الأبرياء ، وتتبنى بعض أجهزة العالم تلك التسمية بما فيها أجهزة الإعلام في العالم العربي التي تردد كالببغاوات مالا يتفق مع منطق ولا عقل ولا فكر.

جرائم الصهيونية 

إنها جرائم حرب وأعمال وحشية تتعارض مع أبسط القوانين الدولية، وما يسمى بحقوق الإنسان ترتكبها إسرائيل وتستتر خلف ذلك المصطلح وتلك التسمية ليصبح القاتل هو المقتول والقتيل هو المجرم، منطق معكوس يؤيده موقف عربي مهزوم.

ثانياً:  أين كان الأمن القومي العربي عندما قامت ثلاث دول بعدوانها على جمهورية مصر العربية؟ تتزعمها بريطانيا وتشاركها فرنسا وإسرائيل، وذلك حينما استباحت الأجواء المصرية وأسقطت عشرات الآلاف من القنابل لتخلف وراءها آلاف الضحايا، علماً بأن بعض الطائرات الحربية كانت تنطلق من بعض القواعد العربية ، وتركت مصر وحدها تواجه ببسالة شعبها قوى البغي والعدوان ، وانتصرت إرادة الشعب وانكفأت بريطانيا العظمى داخل حدودها وانهارت إمبراطوريتها.

القرارات العسكرية المصرية

ثالثاً: أصبحت مصر في الستينات – بما تملكه من قدرات عسكرية – تشكل تهديداً مباشراً لأمن إسرائيل، عندها – وكالعادة – درست إسرائيل كل الاحتمالات، ومدى خطورة القوى العسكرية النامية على أمنها، ومدى آثارها على توسعها، وحينذاك سعت مع حلفائها لإعداد ترتيبات معينة، وتخطيطات محكمة لاستدراج مصر إلى مكانٍ وفي زمانٍ حددتهما – بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية – وكان ذلك في سيناء 5 يونيه 1967، وهناك حدثت المذبحة؛ كي لا تقوم بعدها قائمة لمصر، وما تمثله من مركز الحركة والقوة للدول العربية .

لقد اتضح فيما بعد أن القيادة المصرية لم تكن قد اتخذت قرار الحرب، فوضعت القوات المصرية في صحراء سيناء دون حماية جوية كاملة ودون استعداد حقيقي للهجوم على إسرائيل ودون أن تدرك بأنها تعرض أمن مصر للخطر، وأن الجيش المصري سيكون وحده في أتون النار وستتحمل مصر الآثار المدمرة للهزيمة، فاستغلت إسرائيل تلك الفرصة وشنت حرباً مفاجأة بدأت بتجريد الجيش المصري من غطائه الجوي بتدمير طائراته وذلك عندما بدأ الهجوم الجوي الإسرائيلي الساعة التاسعة صباحاً يوم 5يونيو1967، فأصبح الجيش المصري صيداً سهلاً في صحراء سيناء، وسقط الآلاف من رجاله دون أن تتاح لهم فرصة الدفاع عن النفس. ذلك ما حدث، فأين كانت الدول العربية ، وماذا كان موقفها؟

المواقف المتباينة

لقد تباينت المواقف بين موقف شامتٍ وسعيدٍ بما آلت إليه الأمور في مصر، وآخر متعاطفٍ لا يملك من أمره شيئاً، وثالث يتظاهر بالحزن والأسى . فكانت المحصلة احتلال سيناء وتعطل الملاحة في قناة السويس، ولم تدرك الدول العربية أن أمن مصر هو أمنها، وأن أمن سوريا بعد احتلال الجولان، وأمن الأردن بعد أن سقطت الضفة الغربية بيد الصهاينة ، سوف تترتب عليه نتائج سلبية ستؤثر عليهم، لم يكن ذلك المفهوم وارداً بل لم يكن موجوداً على الإطلاق . فأين هو الأمن العربي في تلك الأحداث؟.

رابعاً: استطاعت مصر أن تعيد حشد قواتها وتعيد بناء قدراتها العسكرية بإسلوبٍ علميٍ مدروسٍ ، واتخذت قرار العبور، وكان الله معها فحققت انتصاراً كالمعجزة. ولكن هل كانت كل الدول العربية تقف خلفها تدعمها بالمال والسلاح قبل المعركة أو أثناءها؟

معركة الشرف

كلا فقد حاربت مصر تساندها سوريا في معركة الشرف التي أعادت للأمة العربية بعضاً من هيبتها ، وتجاوب معها زعيم في بلدٍ حديثٍ من بلدان الخليج العربي وهو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رئيس دولة الامارات العربية المتحدة – الذي حتمت عليه مروءته وشهامته أن يتخذ موقفاً كان له تأثيرٌ مباشرٌ على تغيير مجرى الأحداث، فكان قرار وقف ضخ البترول ووقف إمداداته عن حلفاء إسرائيل مرعباً وقوياً كالزلزال لما يمكن أن تؤول إليه حضارة الغرب في حال إذا ما طال أمد وقف ضخ البترول، وما يترتب على ذلك من تعطيل الكثير من المصالح والمؤسسات التي تعتمد على البترول ومنتجاته وما سيؤدي ذلك من فوضى وارتباك في أمريكا وأوربا.

ذلك الموقف لم يكن وليد تخطيط مسبق، لكنه كان رؤيةً بعيدة المدى عن أهمية مصر وأن انتصارها سيشكل دعماً قوياً لدولة الإمارات العربية المتحدة والدول العربية كافة. فقد كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الزعيم الوحيد في العالم العربي ، الذي اعتبر أن أمن مصر هو أمن دولة الامارات العربية المتحدة، لذلك كان رد فعله صادقاً وقوياً ، ولم يحسب لأيٍ كان اعتباراً، إلا اعتباراً واحداً هو إيمانه وقناعته بأن مصر تشكل رصيداً ضخماً لمواجهة ما يخبئه المستقبل، وأنها تؤدي دوراً يمكن لها أن تقفه مع دولة الإمارات إذا ما وقع المحظور.

«زايد» صوت المرؤة والشهامة

هكذا تمت الاستجابة لنداء شقيق وهو في طريق الأمل والنصر. يوم لم يكن الأمن العربي موجوداً غير موقف المروءة والشهامة الذي تجلّى بأروع صفات الرجولة والشجاعة. كان صوت زايد قد هز بكل قوة الاقتصاد الدولي ليعيدوا حساباتهم. وكان تأثيره على نتائج حرب أكتوبر مباشراً ومؤثراً في الضغط الأمريكي على إسرائيل لوقف إطلاق النار بعدما احتلت منطقة (الدفرسوار) في الضفة الغربية للقناة وحاصرت الجيش المصري الثاني.

خامساً: قامت إسرائيل بغزو لبنان سنة 1982، واستباحت سيادته وأرضه ودمرت وقتلت الآلاف من أبنائه، وأهلكت الأخضر واليابس، والجميع فاغر فاه يتفرج دون إحساس أو شعور بأن ما يحدث في لبنان يشكل خطراً على بقية الدول العربية، فيومها لم يكن الوعي العربي حاضراً، ولم يكن الإدراك موجوداً، فانفردت إسرائيل بشعب لبنان القليل العدد القوي بإيمانه، والذي قاوم الاحتلال بمفرده، وانتصرت إرادة شعبه، فأين الأمن القومي العربي؟ وما هي الخطوات التي اتخذتها الدول العربية لمساندة لبنان في حربة ضد قوى العدوان؟

التمنيات والبيانات

لا شيء غير التمنيات والبيانات التي تستنكر وتحتج، وترجو الأمم المتحدة على استحياء وتطالبها بإدراج الغزو الإسرائيلي ضمن أجندتها للمناقشة. لعل من المخزي القول أنه كانت يومذاك أجهزة الإعلام العربية المرئية والمقروءة والمسموعة تتحدث عن الألعاب الأولمبية في أسبانيا، وكأن أمر الغزو بعيدٌ عن اهتمامهم. فأين كان الأمن القومي العربي وكيف لم يدرج الغزو الإسرائيلي في حسابه ولماذا لم يقاومه؟

سادساً: عندما قامت حرب لبنان الأهلية وتقاتل أبناؤه وما حدث فيه من تخريب ودمار ومجازر ارتكبها من لا ضمير لهم ولمدة أكثر من عشر سنوات، دون أن تقوم الدول العربية باتخاذ إجراءات حاسمة لوقف القتال . فأين كان الأمن العربي، ما هي الإجراءات التي تم اتخاذها ليتم إطفاء نار الفتنة حتى لا تنتشر وتأتي على الأخضر واليابس؟

الرؤية العربية القاصرة

لقد كانت الدول العربية ترى وتسمع ما يحدث في لبنان وما سيؤدي ذلك إلى انهيار النظام هناك وما سيترتب عليه من أخطار على لبنان. لكن الرؤية العربية لم تكن مدركة بأن ما يهدد أمن لبنان يهدد بقية الدول العربية، لذلك لم يكن رد الفعل مساوياً لأهمية لبنان، ولم يكن موضوع أمن لبنان يقلق القيادات العربية، ولم تعيره اهتماماً بحيث تتحرك بسرعة لإخماد نار الفتنة، لذلك فقد تركوا الشعب اللبناني يواجه الكارثة وحده بصبرٍ وبصيرةٍ، فيما غاب مفهوم الأمن القومي العربي عن الساحة.

سابعاً: عندما نشبت الحرب العراقية الإيرانية، وما شكلته من استنزاف للقدرات العربية والإسلامية، ودامت أكثر من ثماني سنوات والدم العراقي ينزف والمال العربي يحترق في أتون المعارك. لم يكن الأمن القومي العربي يهمه ما يحدث، لذلك ضاعت قدرات اقتصادية وسالت دماء بريئة لمئات الآلاف، وكأن الجميع ينتظر من يفوز في ذلك الصراع، وكأن المطلوب أن يجهز كل منهما على الآخر ليصفو الجو لإسرائيل تمرح وتسرح في الوطن العربي تفعل ما تريد . فأين كان الأمن العربي يومذاك؟

المخطط الشيطاني

ثامناً: ومثلما تم التخطيط لاستدراج القوات المصرية في سيناء، فقد تم بالاسلوب نفسه استدراج جيش العراق حينما قام بغزو الكويت. فقد تم ترتيب أسبابه وتحدد مسبقاً في المخطط الشيطاني للولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل الهدف الرئيسي الذي يحقق تدمير القوة العسكرية العراقية، وعلى الأخص القواعد الصاروخية التي تصل مداها إلى عمق إسرائيل ، وكان قد تم تدمير المفاعل الذري العراقي عام 1981، وما تمثله القوة العسكرية العراقية من أخطار أكيدة على إسرائيل تؤثر على توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.

ومن ثم فالمطلوب هو أن تبقى إسرائيل وحدها صاحبة القوة الوحيدة واليد الطولي لحماية مصالح المستعمر الجديد. فأين كان الأمن القومي؟ وأين حركته التي كان يجب أن تتحرك بسرعة في التدخل العاقل والحاسم وحسم المشكلة والضغط على العراق بكل قوةٍ للانسحاب من الكويت جارته وشقيقته.

غياب الأمن العربي

يبدو أن الجميع اتفق على أن تستمر فصول المسرحية ليستمتعوا بصور المأساة وآثارها المدمرة على الشعب العراقي واقتصاده، وعلى القضاء على التضامن العربي الذي تشتت من جراء تلك المحنة.

فأين كان الأمن العربي من تلك الكارثة؟ وأين الرؤية والوعي المسؤول لاستشراف المستقبل وما يمكن أن تؤول إليه الأمور وما وصلت إليه بأن يظل شعب العراق منهاراً اقتصادياً، وأن يتساقط عشرات الآلاف من أطفاله، وأن تستباح سيادته ويوضع تحت الوصاية ، وكأن ذلك الأمر لا يعني الدول العربية؟

ألم تتصور أي من الدول العربية بأن ما يحدث للعراق يمكن أن يحدث في مكان آخر؟، وها قد حدث فعلاً حصارٌ ظالم لشعب بأكمله في ليبيا دون أية مبررات قانونية أو أسباب منطقية، اللهم إلا استمرار ضرب القدرات العربية وتحطيم معنويات أبنائه حتى يستسلم ويرضخ ليقبل بكل املاءات إسرائيل.

ألم تتصور الدول العربية أنها طالما سمحت لقوى الهيمنة بوضع العراق تحت الوصاية الدولية، يمكن أن توضع أية دولة أخرى في العالم العربي تحت الوصاية أيضاً؟ فكما يقال (إذا سمح للذئب بدخول مزرعة الغنم سيأتي عليها واحداً تلو الآخر).

 الطامة الكبرى

تاسعاً: أختتم سرد الأحداث، بالكلام عن الطامة الكبرى وما يحدث في فلسطين المغتصبة من سقوط الشهداء. فكلما أشرقت شمس تنهمر دموع الأرامل حزناً على فراق عزيز، وكلما غربت شمس تدك إسرائيل بكل أسلحتها الثقيلة منازل الأبرياء دون وازع أو ضمير، والعالم يستمتع كل يوم بمشاهد قوافل الشهداء يحملها إخوانهم إلى مثواها الأخير، لكن لا حول لهم ولا قوة. أما الصمت العربي فيترجمه الغرب بعدم المبالاة، طالما أن من يدعون أنفسهم بالأشقاء لا يأبهون بما يحدث، غير بعض الاستنكار في حالة اجتماع القمم العربية.

وهكذا فإننا اليوم نعيش في عصر يتحمل فيه الضحية مسؤولية العنف، بينما يبقى القاتل المدجج بالسلاح يبحث عن الأمن، وتُردِّدُ ادّعاءاته معظم العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وتطالب بوقف العنف الفلسطيني كما تطالب الدول العربية بالضغط على أبناء القتلى لأنهم تسببوا في ذلك ويحملونهم المسؤولية . إنه منطق الظالم الذي لا يجد من يقف أمامه، يقابله منطق الضعف والانهزام والإحباط الذي يعيشه المواطن العربي. فأين هو الأمن القومي العربي من هذه الطامة؟

السؤال المهم

إذاً أعود فأسأل:

ماذا يعني مصطلح الأمن العربي؟ هل اننا ندرك معناه؟ وهل نعرف متطلباته؟ وهل نحن فعلاً أمة واحدة تربطنا مصالح واحدة مشتركة؟ هل ندرك أن أي خطر يهدد أحدنا هو خطرٌ يهدد الجميع؟ هل وظفنا قدراتنا الاقتصادية لخدمة مصالحنا المشتركة؟ هل أوجدنا منظومة أمنية تدافع عن مصالحنا المشتركة وتحمي دولنا مما يهددها من أخطار؟ هل يكفي أننا نتحدث اللغة العربية لكي نجتمع تحت ظلها؟

أعوام كثيرة مضت ولم تستطع لغتنا الجميلة أن تبعث فينا العزيمة والإرادة. بل إنها اليوم بدأت تترنح تحت وطأة حركة التغيير والتطور.

دعوة إلى القيادات العربية

إن القيادات العربية اليوم مدعوة إلى التفكير بعمق وموضوعية ورؤية جديدة تُميّزُ بين القول والعمل. رؤية تدرك أن الزمن أغلى شيء في عمر الأمم، ولا بد من استغلال الوقت كي لا تفوت الفرصة ويقع المحظور ، فدول العالم في سباقٍ محمومٍ وتنافسٍ رهيبٍ وصراعٍ اقتصاديٍ، بدأ يأخُذُ أشكالَ تكتلاتٍ اقتصاديةٍ دوليةٍ وتكتلاتٍ لشركاتٍ عالميةٍ لتكون لهم القدرة على المنافسة وعلى الحفاظ على تأمين الحد الأدنى لشعوبها من الحياة والمدنية. فأين الأمة العربية من ذلك وهي التي لديها كنوز وخيرات وثروات لكنها لم تُستَثْمر وتُوَظَفُ في خدمة أبنائها؟

لذا فإن القيادات العربية يجب أن تدرك أن الأخطار تحيط بها من كل جانب، وأن وقوع إحدى الدول العربية تحت سيطرة العدوان لا يعني أن بقية الدول العربية ستكون في مأمن منه، وأن سياسة العولمة ستجر على شعوب الأمة العربية مآسٍ وكوارث إذا لم يتحدد مفهوم جديد وروابط عميقة لأهمية العلاقات العربية – العربية، والتزام واضح فيما بينها لبناء قاعدة جديدة تؤسس عليها مفاهيم جديدة أساسها العلاقات الاقتصادية التي تربط مصالح الشعوب العربية، لتصل بعدها إلى الشعور بمسؤولية الأمن المشترك من أجل البقاء، عندها ستدرك القيادات العربية أهمية إيجاد منظومة أمنية تحمي مصالحها مما يهددها من أخطار وإجراءات قد تصل بعض الأحيان إلى فرض وصاية على أهم ثرواتها، وهو البترول حيث تستطيع القوة المتحكمة اقتصادياً في العالم أن تفرض أوامرها على الدول المنتجة للبترول سعراً محدداً أو تفرض مقاطعة على الدول التي لا تنصاع لقراراتها، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على خطط التنمية، وما يعقبها من مشاكل اجتماعية تؤثر عل الجبهة الداخلية للدول العربية.

إعادة النظر في مسيرة التضامن العربي

فلتكن وقفة يتم فيها تحكيم العقل والرؤية لإعادة النظر في مسيرة التضامن العربي الذي أصبح اليوم مجرد شعارٍ خالٍ من أية أسس وآلياتٍ تدعمه وتُحوّل قرارات مؤتمرات القمة إلى إجراءات عملية تكون لها نتائج مؤثرة على سير الأحداث.

لذا فان الأمر أصبح من الخطورة بحيث يتطلب أن تقوم الجامعة العربية فوراً بإعداد استراتيجية العمل العربي المشترك لوضع أسس علمية مدروسة تستوعب مطالب الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه. فقد أدركت هذه الجماهير بوعي لا تنقصه الرؤية أن الأمن العربي هو القاعدة الأساسية والركيزة الأولى التي يجب أن يقوم على أساسها التضامن العربي، وتحدد فيه أسلوب العلاقات العربية، وهو السياج الذي سيحمي مستقبل الدول العربية، ويحفظ لها سيادتها ويحمي ثرواتها ويجعل دول العالم تحترم قراراتها.

أسباب الهزائم التي لحقت بالأمة

إن ما ذكرته آنفاً من أحداث مأساوية مرت على الأمة العربية كان من أهم أسباب التردي والهزائم المتلاحقة التي حلت بالأمة بسبب عدم وضوح الرؤية في ما تؤمن به كل الانظمة العربية، وهو أن وحدة المصير تحتم على الدول العربية أن تدرك أن لا ملجأ لامتنا إلا بتشكيل منظومة أمنية تهيئ لها أسباب النجاح، بحسن تنظيمٍ وإعدادٍ وتنسيقٍ، لتستطيع حماية حقوقها ومواجهة التحديات.

ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف الاستراتيجي يجب إعادة صياغة ميثاق الجامعة العربية بحيث يتضمن بكل وضوحٍ ما يلي:

(1)   احترام خصوصيات كل دولة عربية، فلكلٍ منها طبيعةٌ وثقافةٌ وعاداتٌ تجري في عروق أبنائها جيلاً بعد جيل.

(2)   تلتزم الوسائل الإعلامية لكافة الدول العربية بميثاق شرف يستهدف عدم التعرض لأية دولة منها بالنقد أو بالتشهير لأي سبب من الأسباب.

(3)   تلتزم الدول العربية بأن تؤمن بعقيدة راسخة أن أمن أية دولة عربية ، هو أمنها جميعاً، وأن ما يهددُ أية دولة سواء كان حصاراً أم عملاً عسكرياً، يعتبر تهديداً للدول العربية جمعاء.

إجراءات تكليف القيادات العربية

(4)   تُكِّلفُ القياداتُ العربيةُ، أمين عام الجامعة العربية باتخاذ الإجراءات التالية:

أ .  دعوة وزراء الدفاع ورؤساء الأركان للقيام بإعداد استراتيجية تهدف لإنشاء حلف دفاعي يضع في اعتباره المسؤولية عن حماية أي قطر عربي يتعرض أمنه للتهديد، على أن تعرض هذه الاستراتيجية في أول اجتماع قمة عربي لإقرارها واعتماد الآليات التنفيذية لها وتأمين الالتزامات المالية أيضاً.

ب.  تكليف وزراء الخارجية بتقييم العلاقات العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية على أساس مواقفها من مصالح الأمة العربية، وكيفية وضع أسس مشتركة تجعل الولايات المتحدة تحترم إرادة الأمة وحقوقها على أساس المعاملة بالمثل، واتخاذ ما يتطلب ذلك من وسائل لبناء علاقة متوازنة يحترم كل طرفٍ حقوق الطرف الآخر.

خطط الاقتصاد

ج. دعوة وزراء الاقتصاد والمالية والنفط لإعداد خطة اقتصادية لبناء علاقة استراتيجية مع أوروبا ، وصولاً بها إلى تأسيس شركات مشتركة يتحقق بها مردود اقتصادي لصالح أوروبا والعالم العربي. آخذين بنظر الاعتبار أن العلاقات التاريخية بين العالم العربي وأوروبا وقربهما الجغرافي من بعضهما يحتم إعادة النظر في تعميق العلاقات الاقتصادية لتكون أوروبا الشريك الاستراتيجي للعالم العربي في القرن الواحد والعشرين .

د . إن انهيار الاتحاد السوفيتي ترتب عليه تاثيرٌ خطيرٌ في الموازين الدولية، مما أدى إلى تحكم القطب الواحد ومن يتحكم في إدارته وهو العدو الصهيوني الذي يوظف العالم كله في خدمة مصالحه وتحقيق أهدافه. ولكم وقف الاتحاد السوفيتي مواقف تدعم الحق العربي وتساعده على تأمين احتياجاته من السلاح ، فلقد كان الصديق عند الشدة، واليوم فان روسيا الاتحادية تنظر يكل ترحابٍ إلى الاستثمارات العربية، وما يمكن أن يؤدي تزاوج القدرات المالية العربية والإمكانيات العلمية في روسيا إلى تحقيق مصالح مشتركة تضيف للأمة العربية رصيداً قوياً يعينها في أوقات الضرورة.

أمنيات وخواطر

تلك أمنيات وخواطر صادقة مخلصة، علها تصل إلى عقولٍ أذِنَ اللهُ لها أن تعي ما يخبئه لها المستقبل، وقلوبٍ تستوعب مشاعر أبناء الشعب العربي وتتعايش معهم، ودعائي للبارئ عز وجل أن يجعل قيادات الأمة العربية تدرك بأن الزمن ليس في صالحها، وأن النوايا العدوانية المبيتة تم تنفيذها وفق مخططات تعتمد أساساً على التشتّت العربي، وعلى صراع الدول العربية فيما بينها، لتنفيذِ أدوارٍ أقليميةٍ ودوليةٍ تزيد من القدرات المالية المكدسة في وول ستريت في نيويورك أكبر مركز مالي عالمي للصهاينة، وأن تتمكن هذه القيادات من تنفيذ قراراتٍ مضى عليها أكثر من خمسين عاماً وهي مكدسة في الأدراج وكان الله في عون أمتنا